فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{يُدَبّرُ الْأَمْرَ منَ السَّمَاء إلَى الْأَرْض ثُمَّ يَعْرُجُ إلَيْه في يَوْمٍ كَانَ مقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ (5)}.
قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ} العامَّةُ على بنائه للفاعل. وابنُ أبي عبلة على بنائه للمفعول. والأصلُ: يُعْرَجُ به، ثم حُذفَ الجارُّ فارتفع الضميرُ واستتر. وهو شاذٌّ يَصْلُحُ لتوجيه مثلها.
قوله: {ممَّا تَعُدُّون} العامَّةُ على الخطاب. والحسن والسلميُّ وابنُ وثَّاب والأعمش بالغَيْبة. وهذا الجارُّ صفةٌ ل {أَلْف} أو ل {سَنة}.
قوله: {ذلك عَالمُ}.
العامَّةُ على رفع {عالمُ} و{العزيز} و{الرحيم} على أَنْ يكونَ {ذلك} مبتدًا، و{عالمُ} خبرَه. و{العزيز الرحيم} خبران أو نعتان، أو العزيز الرحيم مبتدأٌ وصفتُه، و{الذي أَحْسَنَ} خبرُه، أو {العزيزُ الرحيم} خبرُ مبتدأ مضمرٍ. وقرأ زيد بن علي بجرّ الثلاثة. وتخريجُها على إشكالها: أن يكونَ {ذلك} إشارةً إلى الأمر المدبَّر، ويكونَ فاعلًا ل {يَعْرُجُ}، والأوصافُ الثلاثة بدلٌ من الضمير في {إليه} كأنه قيل: ثم يعرُج الأمرُ المدبَّرُ إليه عالم الغيب أي: إلى عالم الغيب.
وأبو زيد برفع {عالمُ} وخفض {العزيز الرحيم} على أن يكونَ {ذلك عالمُ} مبتدًا وخبرًا، والعزيز الرحيم بدلان من الهاء في {إليه} أيضًا. وتكون الجملةُ بينهما اعتراضًا.
قوله: {الذي أَحْسَنَ} يجوزُ أَنْ يكونَ تابعًا لما قبله في قراءتَيْ الرفع والخفض، وأن يكونَ خبرًا آخرَ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ، وأن يكونَ منصوبًا على المدح.
قوله: {خَلَقَه} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بسكون اللام. والباقون بفتحها. فأمَّا الأُولى ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ {خَلْقَه} بدلًا منْ {كلَّ شيء} بدلَ اشتمالٍ منْ {كلَّ شيءٍ}، والضميرُ عائدٌ على كل شيء. وهذا هو المشهورُ المتداوَلُ. الثاني: أنه بدلُ كلٍ منْ كل، والضميرُ على هذا عائدٌ على الباري تعالى. ومعنى {أحسن} حَسَّن؛ لأنه ما منْ شيءٍ خَلَقَه إلاَّ وهو مُرَتَّبٌ على ما تَقْتَضيه الحكمةُ، فالمخلوقاتُ كلُّها حسنةٌ. الثالث: أن يكونَ {كلَّ شيءٍ} مفعولًا أول، و{خَلْقَه} مفعولًا ثانيًا على أَنْ يُضَمَّن {أحسَنَ} معنى أَعْطى وأَلْهَمَ. قال مجاهد: أعطى كلَّ جنسٍ شكله. والمعنى: خَلَقَ كلَّ شيءٍ على شكله الذي خصَّه به. الرابع: أن يكون {كلَّ شيء} مفعولًا ثانيًا قُدّم، و{خَلْقَه} مفعولًا أول أُخّر، على أَنْ يُضَمَّنَ {أَحْسَنَ} معنى أَلْهَمَ وعَرَّف. قال الفراء: ألهم كلَّ شيءٍ خَلْقَه فيما يحتاجون إليه فيكونُ أَعْلَمهم ذلك. قلت: وأبو البقاء ضَمَّن أحسنَ معنى عَرَّف. وأَعْرَبَ على نحو ما تقدَّم، إلاَّ أنه لابد أن يُجْعَلَ الضميرُ لله تعالى، ويُجعلَ الخَلْقُ بمعنى المَخْلوق أي: عَرَّف مخلوقاته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه، فيَؤول المعنى إلى معنى قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50].
الخامس: أن تعودَ الهاء على الله تعالى وأَنْ يكون {خَلْقَه} منصوبًا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة كقوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88]، وهو مذهبُ سيبويه أي: خَلَقَه خَلْقًا. ورُجّحَ على بدل الاشتمال: بأنَّ فيه إضافةَ المصدر إلى فاعله، وهو أكثرُ منْ إضافته إلى المفعول، وبأنه أبلغُ في الامتنان لأنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} كان أبلغَ منْ أَحْسَنَ خَلْقَ كلّ شيء؛ لأنه قد يَحْسُنُ الخلقُ- وهو المحاولةُ- ولا يكون الشيء في نفسه حَسَنًا. وإذا قال: أحسنَ كلَّ شيْءٍ اقتضى أنَّ كلَّ شيءٍ خَلَقَه حَسَنٌ، بمعنى أنه وَضَعَ كلَّ شيءٍ في موضعه.
وأمَّا القراءةُ الثانية ف {خَلَقَ} فيها فعلٌ ماضٍ، والجملةُ صفةٌ للمضاف أو المضاف إليه، فتكونُ منصوبةَ المحلّ أو مجرورتَه.
قوله: {وَبَدَأ} العامَّةُ على الهمز. وقرأ الزهريُّ {بدا} بألفٍ خالصةٍ، وهو خارجٌ عن قياس تخفيفها، إذ قياسُه بينَ بينَ. على أن الأخفش حكى قَرَيْتُ وجوَّز الشيخ أن يكونَ منْ لغة الأنصار. يقولون في بدأ: بَدي يكسرون الدالَ وبعدها ياءٌ، كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري:
بسم الإله وبه بَديْنا ** ولو عَبَدْنا غيرَه شَقيْنا

قال: وطيّئٌ تقول في بَقي: بَقَا. قال: فاحتمل أَنْ تكونَ قراءةُ الزهري من هذه اللغة، أصلُه بَدي، ثم صار بدا. قلت: فتكون القراءةُ مركبةً منْ لغتَيْن.
{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فيه منْ رُوحه وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئدَةَ قَليلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}.
قوله: {وَجَعَلَ لَكُمُ} هذا التفاتٌ منْ ضمير غائبٍ مفردٍ في قوله: {نَسْلَه} إلى آخره، إلى خطاب جماعة.
{وَقَالُوا أَإذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْض أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بلقَاء رَبّهمْ كَافرُونَ (10)}.
قوله: {أَإذَا ضَلَلْنَا} تقدَّم اختلافُ القراء في الاستفهامين في سورة الرعد. والعاملُ في إذا محذوفٌ تقديرُه: نُبْعَثُ أو نُخْرَجُ، لدلالة {خَلْقٍ جديد} عليه. ولا يَعْمَلُ فيه {خَلْق جديد} لأنَّ ما بعد إنَّ والاستفهامَ لا يعملُ فيما قبلهما. وجوابُ إذا محذوفٌ إذا جعلتَها شرطيةً.
وقرأ العامَّةُ {ضَلَلْنا} بضادٍ معجمةٍ ولامٍ مفتوحةٍ بمعنى: ذَهَبْنا وضعْنا، منْ قولهم: ضَلَّ اللبنُ في الماء. وقيل: غُيّبْنا. قال النابغة:
فآبَ مُضلُّوه بعينٍ جَليَّة ** وغُوْدر بالجَوْلان حَزْمٌ ونائلُ

والمضارعُ منْ هذا: يَضلُّ بكسر العين وهو كثيرٌ. وقرأ يحيى ابن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء بكسر اللام، وهي لغةُ العالية. والمضارعُ من هذا يَضَلُّ بالفتح. وقرأ عليٌّ وأبو حيوة {ضُلّلْنا} بضم الضاد وكسر اللام المشددة منْ ضَلَّلَه بالتشديد.
وقرأ عليٌّ أيضًا وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد {صَلَلْنا} بصادٍ مهملةٍ ولامٍ مفتوحة. وعن الحسن أيضًا {صَللْنا} بكسر الصاد. وهما لغتان. يقال: صَلَّ اللحمُ يَصلُّ، ويَصَلُّ بفتح الصاد وكَسرها لمجيء الماضي مفتوحَ العين ومكسورَها. ومعنى صَلَّ اللحمُ: أنتنَ وتَغيَّرتْ رائحتُه. ويُقال أيضًا: أَصَلَّ بالألف قال:
تُلَجْلجُ مُضْغَةً فيها أَنيْضٌ ** أَصَلَّتْ فَهْيَ تحت الكَشْح داءُ

وقال النحاس: لا نعرفُ في اللغة {صَللْنا} ولكن يُقال: صَلَّ اللحمُ، وأصلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفها غيرُ أبي جعفر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{ذَلكَ عَالمُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة الْعَزيزُ الرَّحيمُ (6)}.
{الْعَزيزُ} مع المطيعين {الرَّحيمُ} على العاصين.
{الْعَزيزُ} للمطيعين ليكْسرَ صولتَهم {الرَّحيمُ} للعاصين ليرفعَ زَلَّتَهم.
{الَّذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإنْسَان منْ طينٍ (7)}.
أَحْسَنَ صورةَ كلَّ أحدٍ؛ فالعرشُ ياقوتةٌ حمراءُ، والملائكة أولو أجنحة مثنى وثُلاثَ ورُبَاع، وجبريلُ طاووس الملائكة، والحور العين كما في الخبر في جمالها وأشكالها، والجنانُ كما في الأخبار ونص القرآن. فإذا انتهى إلى الإنسان قال: و{خَلْقَ الإنسَان من طينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلاَلَةٍ مّن مَّاءٍ مَّهينٍ} [السجدة: 7، 8]. كل هذا ولكن:
وكم أبصرتُ من حُسْنٍ ولكن ** عليك من الورى وقع اختياري

خَلَقَ الإنسانَ من طين ولكن {يُحبُّهُمْ وَيُحبُّونَهُ} [البقرة: 152]، وخلق الإنسان من طين ولكن: {فَاذْكُرُونى أَذْكُرْكُمْ} [البينة: 8]، وخلق الإنسان من طين ولكن {رَّضىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]!.
{وَقَالُوا أَإذَا ضَلَلْنَا في الْأَرْض أَإنَّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بلقَاء رَبّهمْ كَافرُونَ (10)}.
لو كانت لهم ذَرَّةٌ من العرفان، وشَمَّة من الاشتياق، ونَسْمَةٌ من المحبة لَما تَعَصَّبُوا كُلَّ هذا التعصب في إنكار جواز الرجوع إلى الله ولكن قال: {بَلْ هُم بلقَاء رَبّهمْ كَافرونَ}. اهـ.

.تفسير الآيات (11- 14):

قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْت الَّذي وُكّلَ بكُمْ ثُمَّ إلَى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إذ الْمُجْرمُونَ نَاكسُو رُءُوسهمْ عنْدَ رَبّهمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمعْنَا فَارْجعْنَا نَعْمَلْ صَالحًا إنَّا مُوقنُونَ (12) وَلَوْ شئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكنْ حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ (13) فَذُوقُوا بمَا نَسيتُمْ لقَاءَ يَوْمكُمْ هَذَا إنَّا نَسينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْد بمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر استبعادهم، وأتبعه عنادهم، وكان إنكارهم إنما هو بسبب اختلاط الأجزاء بالتراب بعد إنقلابها ترابًا، فكان عندهم من المحال تمييزها من بقية التراب.
دل على أن ذلك عليه هين بأن نبههم على ما هو مقرّون به مما هو مثل ذلك بل أدق.
فقال مستأنفًا: {قل} أي جوابًا لهم عن شبهتهم: {يتوفاكم} أي يقبض أرواحكم كاملة من أجسادكم بعد أن كانت مختلطة بجميع أجزاء البدن، لا تميز لأحدهما عن الآخر بوجه تعرفونه بنوع حيلة {ملك الموت} ثم أشار إلى أن فعله بقدرته، وأن ذلك عليه في غاية السهولة، ببناء الفعل لما لم يسم فاعله فقال: {الذي وكل بكم} أي وكله الخالق لكم بذلك، وهو عبد من عبيده، ففعل ما أمر به، فإذا البدن ملقى لا روح في شيء منه وهو على حاله كاملًا لا نقص في شيء منه يدعي الخلل بسببه، فإذا كان هذا فعل عبد من عبيده صرفه في ذلك فقام به على ما ترونه مع أن ممازجة الروح للبدن أشد من ممازجة تراب البدن لبقية التراب لأنه ربما يستدل بعض الحذاق على بعض ذلك بنوع دليل من شم ونحوه، فكيف يستبعد شيء من الأشياء على رب العالمين، ومدير الخلائق أجمعين؟.
فلما قام هذا البرهان القطعي الظاهر مع دقته لكل أحد على قدرته التامة على تمييز ترابهم من تراب الأرض، وتمييز بعض تربهم من بعض، وتمييز تراب كل جزء من اجزائهم جل أو دق عن بعض.
علم أن التقدير: ثم يعيدكم خلقًا جديدًا كما كنتم أول مرة، فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره فعطف عليه قوله: {ثم إلى ربكم} أي الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ابتداء، لا إلى غيره، بعد إعادتكم {ترجعون} بأن يبعثكم كنفس واحدة فإذا أنتم بين يديه، فيتم إحسانه وربوبيته بأن يجازي كلًا بما فعل، كما هو دأب الملوك مع عبيدهم، لا يدع أحد منهم الظالم من عبيده مهملًا.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس، شرع يقص بعض أحوالهم عند ذلك، فقال عادلًا عن خطابهم استهانة بهم وإيذانًا بالغضب، وخطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم تسلية له، أو لكل من يصح خطابه، عاطفًا على ما تقديره: فلو رأيتهم وقد بعثرت القبور، وحصل ما في الصدور، وهناك أمور أيّ أمور، موقعًا المضارع في حيز ما من شأنه الدخول على الماضي، لأنه لتحقق وقوعه كأنه قد كان، واختير التعبير به لترويح النفس بترقب رؤيته حال سماعه، تعجيلًا للسرور بترقب المحذور لأهل الشرور: {ولو ترى} أي تكون أيها الرائي من أهل الرؤية لترى حال المجرمين {إذ المجرمون} أي القاطعون لما أمر الله به أن يوصل بعد أن وقفوا بين يدي ربهم {ناكسوا رءوسهم} أي مطأطئوها خجلًا وخوفًا وخزيًا وذلًا في محل المناقشة {عند ربهم} المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم، قائلين بغاية الذل والرقة: {ربنا} أي أيها المحسن إلينا {أبصرنا} ما كنا نكذب به {وسمعنا} أي منك ومن ملائكتك ومن أصوات النيران وغير ذلك ما كنا نستبعده، فصرنا على غاية العلم بتمام قدرتك وصدق وعودك {فارجعنا} بما لك من هذه الصفة المقتضية للإحسان، إلى دار الأعمال {نعمل صالحًا} ثم حققوا هذا الوعد بقولهم على سبيل التعليل مؤكدين لأن حالهم كان حال الشاك الذي يتوقف المخاطب في إيقانه: {إنا موقنون} أي ثابت الآن لنا الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك مما كشف عنه العيان أي لو رأيت ذلك لرأيت أمرًا لا يحتمله من هوله وعظمه عقل، ولا يحيط به وصف.
ولما لم يذكر لهم جوابًا، علم أنه لهوانهم، لأنه ما جرأهم على العصيان إلا صفة الإحسان، فلا يصلح لهم إلا الخزي والهوان، ولأن الإيمان لا يصح إلا بالغيب قبل العيان.
ولما كان ربما وقع في وهم أن ضلالهم مع الإمعان في البيان، لعجز عن هدايتهم أو توان، قال عاطفًا على ما تقديره: إني لا أردكم لأني لم أضلكم في الدنيا للعجز عن هدايتكم فيها، بل لأني لم أرد إسعادكم، ولو شئت لهديتكم، صارفًا القول إلى مظهر العظمة لاقتضاء المقام لها: {ولو شئنا} أي بما لنا من العظمة التي تأبى أن يكون لغيرنا شيء يستقل به أو يكون في ملكنا ما لا نريد {لأتينا كل نفس} أي مكلفة لأن الكلام فيها {هداها} أي جعلنا هدايتها ورشدها وتوفيقها للإيمان وجميع ما يتبعه من صالح الأعمال في يدها متمكنة منها.
ولما استوفى الأمر حده من العظمة، لفت الكلام إلى الإفراد، دفعًا للتعنت وتحقيقًا لأن المراد بالأول العظمة فقال: {ولكن} أي لم أشأ ذلك لأنه {حق القول مني} وأنا من لا يخلف الميعاد، لأن الإخلاف إما لعجز أو نسيان أو حاجة ولا شيء من ذلك يليق بجنابي، أو يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسمًا: {لأملان جهنم} التي هي محل إهانتي وتجهم أعدائي بما تجهموا أوليائي {من الجنة} أي الجن طائفة إبليس، وكأنه أنثهم تحقيرًا لهم عند من يستعظم أمرهم لما دعا إلى تحقيرهم من مقام الغضب وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم {والناس أجمعين} حيث قلت لإبليس: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} [ص: 85] فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختيارًا، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهرًا، والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص عن عذابهم، قال مجيبًا لترققهم إذ ذاك نافيًا لما قد يفهمه كلامهم من أنه محتاج إلى العبادة: {فذوقوا} أي ما كنتم تكذبون به منه بسبب ما حق معي من القول {بما} أي بسبب ما {نسيتم لقاء يومكم} وأكده وبين لهم بقوله: {هذا} أي عملتم- في الإعراض عن الاستعداد لهذا الموقف الذي تحاسبون فيه ويظهر فيه العدل- عمل الناسي له مع أنه مركوز في طباعكم أنه لا يسوغ لذي علم وحكمة أن يدع عبيده يمرحون في أرضه ويتقلبون في رزقه، ثم لا يحاسبهم على ذلك وينصف مظلومهم، فكان الإعراض عنه مستحقًا لأن يسمى نسيانًا من هذا الوجه أيضًا ومن جهة أنه لما ظهر له من البراهين، ما ملأ الأكوان صار كأنه ظهر، وروي ثمّ نسي.
ثم علل ذوقهم لذلك أو استانف لبيان المجازاة به مؤكدًا في مظهر العظمة قطعًا لأطماعهم في الخلاص، ولذا عاد إلى مظهر العظمة فقال: {إنا نسيناكم} أي عاملناكم بما لنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي، فأوردنا النار كما أقسمنا أنه ليس أحد إلا يردها، ثم أخرجنا أهل ودنا وتركناكم فيها ترك المنسي.
ولما كان ما تقدم من أمرهم بالذوق مجملًا، بينه بقوله مؤكدًا له: {وذوقوا عذاب الخلد} أي المختص بأنه لا آخر له.
ولما كان قد خص السبب فيما مضى، عم هنا فقال: {بما كنتم} أي جبلة وطبعًا {تعملون} من أعمال من لم يخف أمر البعث ناوين أنكم لا تنفكون عن ذلك. اهـ.